نظرة زمنية على التصوير الفوتوغرافي في السودان
من أول صورة التقطها مستعمر بريطاني على ضفاف النيل، إلى صورة مصعب أبو شامة لعريس أثناء الحرب، لم تكن الكاميرا مجرد آلة بل كانت أداة سلطة، ثم أداة مقاومة، ثم أداة تمثيل ذاتي.
هذا المقال يتتبع التحولات البصرية في صورة السودان عبر عدسات سودانية وغير سودانية.
الاستعمار و التصوير:
دخل التصوير الفوتوغرافي بمفهومه الحديث إلى السودان من خلال المستعمر لتوثيق ما كان يراه إنجازات و خلق روايته التي يريد للعالم أن يراها عن المستعمَرين. فقد ركزت الصور التي ظهرت في تلك الفترة على الجيوش و الصور التي تعكس استقرار حياة الناس، لفرض نظرة إيجابية على تلك الفترة و حكم المستعمر. متجاهلة بشكل واضح كل الجوانب التي لا ترضي تلك النظرة، من ثورات و أوضاع إنسانية مزرية.
هوية جديدة:
بينما ركزت صور المستعمر على أنماط معينة تخدمها، ركزت صور رواد التصوير في السودان أمثال رشيد مهدي و جاد الله جبارة على سردية سودانية مستقلة، عكست ثقافة السودانيين المتنوعة، حياتهم الاجتماعية و ثوراتهم. ظهرت أساليب جديدة على السودان في ذلك العهد كأرشفة الصور و المناسبات العائلية.
حافظ "الرشيد مهدي" كمصور مستقل و عصامي على ستوديو الرشيد للتصوير بمدينة عطبرة في ولاية نهر النيل الذي أسسه عام 1939 نشطاً حتى منتصف التسعينات. يمكن للناظر إلى صور رشيد مهدي رؤية التنوع الثقافي والاثني في السودان و كيف كانت المناسبات الاجتماعية في بعض المدن في ذلك الزمان، كما يمكن للصور أن تساعد على تتبع الأحداث السياسية في السودان. و الأهم، بعيون سودانية للمرة الأولى.
بالرغم من عدم انتشار هذه الصور الفوتوغرافية في وقتها و عدم وجود توثيق لأي معارض خارجية في وقت أخذ الصور، إلا أن هناك الكثير من الجهات والمؤسسات الصحافية والتأريخية التي كتبت عنه لاحقاً كأحد رواد التصوير في المنطقة و الإقليم. عاكساً السودان للعالم حتى بعد رحيله.
عزلة و تاريخ مدفون:
رغم نشاط بعض المصورين السودانيين في عهد ما بعد الاستعمار إلا أن التوثيق ظل ضئيلاً للغاية. فلا يوجد أي آثار رقمية لأعمال مصورة كوصال موسى حسن على سبيل المثال، بالرغم من دورها كأول مصورة سيدة في السودان و ربما الشرق الأوسط، و دورها في التصوير السينمائي و التصوير الفوتوغرافي الاجتماعي. بعد بحث جهيد كل ما ستجده صورة جميلة وحيدة مجهولة المصور لها و هي تحمل كاميراتها الشخصية أمام سيارة، بالإضافة لصورة غلاف أحد أعداد مجلة "حواء الجديدة" في العام 1969 مع غياب تام للعدد نفسه و ماهية ما كُتب عنها.
و لم تكن وصال الضحية الوحيدة لانعدام التوثيق، فلم يصلنا من ذلك الزمان سوى أعمال من تمكنت أسرهم من حفظ أعمالهم مثل عباس حبيب الله و فؤاد حمزة تبن الذي أُعيد اكتشاف أعماله من قبل مصور فرنسي، مع غياب شبه تام لدور مؤسسات الدولة الرسمية في الحفاظ على هكذا إرث ثقافي. ناهيك عن ما دُمر من القدر الضئيل من هذا التوثيق الرسمي نتيجة الحروب.
اختصاراً كان التصوير الفوتوغرافي في السودان و حتى عهد الميديا الحديث مقتصراً على توثيق مصورين الخارج و بعض المصورين السودانيين الذين كان حضورهم في الإقليم العربي و الأفريقي محدوداً لحد كبير رغم اجتهادات البعض. مع انعدام تام لمشاركات موثقة في معارض إقليمية.
عصر الميديا الحديثة، هنا السودان:
لم تحظَ الأعمال الصورية السودانية بحظ كبير في الانتشار حتى أتت المواقع الإلكترونية و منصات التواصل الاجتماعي التي سهلت الانتشار و التوثيق، بالإضافة لتغيُّر نوعي في الجمهور الذي لم يعُد يقتصر على روّاد المتاحف و المعارض، بل أصبح بالإمكان للجميع الإطلاع على هكذا أعمال في أي زمن و من أجهزة شخصية.
في تلك الفترة وبالتحديد في بداية العام 2007 قام المصور السوداني علاء خير بالتعاون مع مصورين و مصورات أُخر بإنشاء منصة "مجموعة المصورين السودانيين". التي تهدف لتعزيز مهارات التصوير وتوسيع الفضاء البصري داخل السودان، عبر التعليم والتدريب وتبادل الخبرات. تطورت المجموعة إلى جهة رائدة نجحت في جعل السودان جزءًا من الحوار البصري الأفريقي والعالمي من خلال الشراكات والبرامج والمشاركات الميدانية والمعارض.
كما توالى إنشاء المنصات الرقمية و أهمها "Sudan Memory" التي بدأت فكرة تأسيسها في 2013 و بدأ العمل الفعلي على الأرض في العام 2018، حين تم إطلاق عمليات المسح الرقمي والأرشفة داخل السودان. تمثّل هذه المنصة كنزاً حقيقياً يحتوي على أعمال و سير ذاتية لشخصيات تكاد تكون غير موثقة رقمياً سوى على هذه المنصة.
تقاطعات الثقافة و الآلام المشتركة:
في الأزمنة الحالية، فإن مشاركات المصورين و المصورات السودانيين أصبحت من السهولة بمكان حيث عرضت في أحد أهم المشاركات السودانية بالعام 2005 أعمال رشيد مهدي وعباس حبيب الله ضمن مهرجان “Afriphoto / African Photography Encounters” المقام بدولة مالي. كما عُرضت ذات الأعمال بالعام 2017 في معرض “The Khartoum School” في Sharjah Art Foundation في الإمارات.
استضافت المؤسسة أيضاً معارض فردية لفنانين و فنانات سودانيين مثل كمالا إبراهيم إسحاق، التي عرضت أعمالها في معرض "نساء في مكعبات الكريستال" عام 2016، وتضمنت أعمالاً تصويرية وتشكيلية توثق تجارب المرأة السودانية والحياة اليومية.
و على صعيد امتد ابعد من عرض الأعمال، كانت مساهمة مجموعة المصورين السودانيين في تدريب المصورين بالتعاون مع معهد جوته تمتد حتى اثيوبيا في أكثر من معرض وورشة بين عامي 2010 و 2018.
كانت المشاركات السودانية في دول مثل الإمارات ومصر تركز أكثر على استعراض الثقافة السودانية و الإرث الثقافي المشترك وغير المشترك بين هذه الدول، بينما كانت المشاركات في الدول الأفريقية تندرج في أغلب الأحيان تحت المعاناة من الحروب والأحوال الإنسانية و الاجتماعية المشتركة.
من المشاريع التي تستحق إلقاء الضوء عليها في هذا السياق مشروع "Reframing Neglect" الذي تولّت تنسيقه المصوّرة الإثيوبية آيدا مولونه، وجمعت بين التصوير الفني والتجريبي والوثائقي لسبعة مصوّرين من دول إفريقية شملت السودان، إثيوبيا، الصومال، أوغندا، مالي، نيجيريا، وكينيا. و هو مشروع إبداعي وفني أُطلق احتفالاً بمرور 10 سنوات على تأسيس منظمة The END Fund، التي تعمل على محاربة الأمراض المدارية المهملة. شارك المشروع في معارض أفريقية وعالمية أهمها في أديس أبابا Photo Vogue Festival وAddis Foto Fest (نوفمبر 2022)، ضمن فعاليات PhotoVogue Milan حيث شارك المصور السوداني علاء خير (أحد مؤسسي مجموعة المصورين السودانيين). صور علاء تناولت أحياء هامشية في الخرطوم، حيث يعيش النازحون في أوضاع هشّة معرضة للأمراض المدارية.
بشكل عام فإن تطور التكنولوجيا التي سهلت التواصل والإطلاع على الثقافات والتجارب المختلفة، قد كان نقطة تحول في المساهمات السودانية في المنطقة، كما في رؤية الإقليم لمشاكل السودان و همومه بعيون سودانية تعكس الحقيقة بشكل واضح و فني يساهم في فتح نقاشات بين السودانيين و الدول المجاورة حول الهموم المشتركة و كيفية الوصول لحلول.
ثورات و آمال في افريقيا والعالم العربي:
في رأي الكثير من الثوار السودانيين، فإن وسائل التواصل الاجتماعي كان لها دور عظيم في الحفاظ على الثورة السودانية التي اشتعلت شرارتها عام 2018 من التزوير والتشويه بفتحها باب تواصل مباشر بين الثوار و العالم، و بصورة حية من قلب الحدث. كان السودان في ذلك الوقت محط أنظار أشخاص من دول غربية سمعوا بالدولة لأول مرة. و كان الإقليم يتابع متابعة لصيقة جعلت من التوثيق والتصوير مهمة يحملها كل ثائر و ثائرة، و بالأخص من كانت مهنته التصوير، مما جعل تركيز المصورين السودانيين المشاركين في الثورة ينصب تلك الفترة على توثيق اللحظات المهمة و الانتهاكات. تجلى هذا التوثيق في اعتصام القيادة العامة حيث اشتهرت أكثر من صورة، بل فاز بعضها بجوائز. أشهرها صور للمصور مصعب ابو شامة و المصورة علا الشيخ.
كما قابلت أعمال المصور فايز أبو بكر محمد رواج كبير داخل السودان وخارجه خاصة بعد أن حصل على جائزة مسابقة وورلد برس فوتو لعام 2022 في فئة الصورة المفردة بقارة أفريقيا عن صورته “Sudan Protests” التي التقطت في 30 ديسمبر 2021، خلال مسيرة احتجاجية في العاصمة السودانية الخرطوم.
و إضافة للمساهمات السودانية، فقد اهتم كثير من المصورين و المصورات من الإقليم بالثورة السودانية اهتمام الثائر بقضية أخيه الثائر. نذكر في هذا السياق الوثائقي الذي أنتجته الصحفية التونسية-المغربية-الفرنسية هند مدب "Sudan, Remember Us" عن الثورة السودانية. الذي كان رغم عرضه غالباً في محافل خارج الإقليم مُعد بعيون قريبة من الحدث باعتبار خلفية الصحفية التونسية التي جعلت اهتمامها بالثورة يمتد من بلدها تونس حتى السودان.
سواء على أرض الواقع الحقيقي أو الافتراضي، فإن توثيق و انتشار صور و فيديوهات الثورة السودانية بصورة كبيرة يعتبر نقطة تحول في علاقة السودان و السودانيين بالمنطقة والعالم. مما ساهم بشكل لا يمكن إنكاره في تجربة الثورة السودانية و انفتاحها على العالم وقرب العالم منها، و فتح أبواب النقاش و إيجاد الحلول من الجهات والأشخاص المهتمة بالحقوق الإنسانية.
أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي التي تشتهر فيها الصور أكثر من النصوص و الأخبار بالطبع، منصة نقاش إقليمي و عالمي جديدة. و بالرغم من عيوب النقاش على هذه المنصات التي لا تخفى على أحد، فإن ميزة وصول هذه التوثيقات إلى أيدي المهتمين بالنقاش الموضوعي و الفعّال كانت واضحة للعيان. بل انتقل الأمر إلى نصائح من مواطني دول عربية مرت بثورات سابقة بناءً على تجربتهم، اتسمت أغلبها بالطابع الفكاهي الساخر و لكن كان لها دور مهم في تنبيه الثوار والثائرات السودانيين لأهمية الإطلاع على تجارب الآخرين و التعلم منها، بالإضافة للشعور بالمؤازرة والتضامن اللذان يشكلان أهمية عظمى في أوقات مشابهة.
انتشار يحمل السودان معه:
إذا كانت الأعمال البصرية كالصور قد صنعت حلقة وصل بين السودانيين و العالم، فإن انتشار السودانيين بعد حرب أبريل 2023 في المنطقة بعد فرارهم بحثاً عن الحياة، قد جعل التجربة السودانية في عيون غير السودانيين تتخطى الصورة والتقرير و الخبر إلى حياة صديق سوداني مقرب أو زميل عمل يرى غير السوداني بعده ما يحدث في السودان كحقيقة قريبة منه و مهمة بالنسبة له.
ما جعلني أذكر هذا الجانب ملاحظة شخصية لكيف أصبح غير السودانيين لصيقين بما يحدث في الجانب السوداني لمنصات التواصل الاجتماعي. معلقين على ومشاركين لصور و فيديوهات و منشورات سودانية لا تتعلق فقط بما يحدث في الحرب، بل بالثقافة السودانية و الحياة الاجتماعية العادية للسودانيين. يشكل هذا التلاحم فرصة أكبر من أي وقت مضى لتعريف السودان بعيون سودانية.
العدسة هي مرآة الهوية، يحمل المصوّرين و المصورات السودانيين -و الفنانين و الفنانات بصورة أعم- اليوم على عاتقهم مهمة ترسيخ ثقافة وحياة السودانيين قبل الحروب التي أنهكتها بادئةً من جنوب السودان الذي انتهى به الأمر للإنفصال، ثم غربه الذي عانى لسنين في صمت عنيف، ممتدة لجميع أجزاءه. و المحافظة على ذاكرة السوداني و السودانية. و المهمة الأصعب هي توثيق الواقع بما يحمله من أوضاع غير إنسانية و انتهاكات.
آملين أن يأتي ذلك اليوم الذي يهتم فيه الفن بتوثيق الحياة العادية التي انعدمت، و إلقاء الضوء على مشاكل أقل حدة.
Comments
Post a Comment