الرضا في عصر الرأسمالية (بتاريخ 30 أبريل 2025)
وجدت في أحد الأيام وأنا أهيم داخل المنشورات و الفيديوهات القصيرة - متعةً أو هرباً من أفكاري لا أعلم - منشوراً لشخص أحترمه جداً. لا تجمعني به علاقة شخصية بالطبع، لكني أحترم ما أعرفه عنه. المنشور كان بسيطاً جداً، لا أتذكر نصه و لكن معناه كان ما يلي "الرضا عدو الإنسان الأول" الفكرة كانت بالتأكيد تشير إلى الرضا بمعنى التوقف عن الإنجاز وعدم الرغبة في المزيد منه نتيجة لما يصدر من ذلك من خمول في الفعل و الفكر و كل الجوانب.
لم أعارض في حياتي شيئاً بقدر هكذا مقولة، مع احترام القائل و تفهُّم هدفه، أرى دائماً أن السعي الدائم نحو "الإنجاز" بمفهومه السائد هو مرضنا كجيل. لقد أتينا في زمن و ظروف يصعب فيها حتى بقاؤك على قيد الحياة، ومع ذلك ترى الجميع محمّلون بثقل ما يمكن إنجازه. نظرياً، لا حدود لما يمكن. من الممكن أن تصبح بطلاً/بطلة عالمياً في رياضةٍ ما، أو أشهر صانع/ة محتوى، أو عالماً/ة قديرة. فقط إذا اجتهدت بما فيه الكفاية. هذا "الممكن" أصبح بشكل ما عدوِي الأول.
نعم هو ممكن، و لكن ماذا عن المسؤوليات التي تجبرك على اختيار طرق فقط لأنها أكثر ضماناً؟ ماذا عن الفرص الغير متساوية لدى الجميع مهما أردنا الاقتناع بعكس ذلك؟ ماذا عن الحروب؟ و الخسائر؟ و التعب النفسي المبرَر جداً؟
لا أريد أن يساء فهمي، أو أخذ رأيي كرأي معاكس لإمكانية إنجاز وتحقيق الكثير رغماً عن أي ظروف. أنا فقط أشير لأثر السعي الدائم نحو الأفضل على راحتنا النفسية. أنظر من منظور أولويتي فيه للراحة النفسية و لو على حساب الإنجاز المزعم. من الجيد أن يكون لديك أحلام، وبعض الأشخاص يؤمنون أن الأحلام هي ما يدفع الشخص للعيش و تحمل ضنك الحياة وإرهاقها (و أحياناً اتفق معهم). و لكن من السيء بل و المؤذي لنفسك أن تترك هذه الأحلام تُشعرك بعدم الرضا الدائم ما لم تحققها، و عدم الاقتناع بحياة بسيطة لأنك لست إنسان "عادي". ما خطب الإنسان العادي؟ و ما خطب الحياة العادية؟
بالتأكيد يمكنك محاولة الموازنة بين السعي و الرضا "نظرياً" و أحياناً يبهرني بعض الأشخاص الذين أراهم يستطيعون فعل ذلك حقاً. لكنني لا أستطيع إشاحة نظري عن هذه السمة العامة بين جميع (أو أغلب) من هم حولي. الجميع يرغب بتحقيق شيء - أو أشياء - و يرى حياته بلا قيمة من دونه.
يستحضرني بودكاست اقترحته لي صديقتي يتحدث عن الفلسفة، يبدأ معها منذ أول فيلسوف موثق تاريخياً و حتى فلاسفة العصر الحديث. أول حلقة أرسلتها لي كانت بعنوان "مجتمع الإنجاز". تتحدث عن هذه الفكرة أو فكرة مشابهة لها. عن كيف أصبح المجتمع يضغط الجميع نحو إنجاز الكثير و عدم التوقف عن الإنجاز حتى لو وصلت لما أردته، لا بد أن تكوِّن رغبة جديدة بشيء جديد. لأنك "تستطيع". كانت الحلقة ملفتة جداً بالنسبة لي و جذابة، لأنني و لأول مرة (ربما لقلة بحثي) أجد من يتحدث من منظوري أو يرى الواقع كما أراه في هذا الشأن. و أظن أن ذلك الفيلسوف قد يوفّر حديثاً أفضل بهذا الشأن مني أنا، ما دفعني لتحميل كتابه الذي يحمل ذات عنوان الحلقة. سأكتب عنه عندما أقرؤه.
المهم أن الفكرة الأساسية - أو أكثر فكرة جذبتني بصورة شخصية - كانت استفادة الرأسمالية من هذه الفكرة. كيف يمكن تتطويع سعيك الدائم هذا و استخدامه كسلعة أو استخدامك أنت كمنتِج لهذه السلعة. فبرغم اختلاف مفهوم الإنجاز جداً من شخص لآخر، و لكن أياً كان مفهومك هذا فإن استغلاله بهذا الشكل ممكن جداً بل و حتميّ.
فإذا كنت ترى الإنجاز يتمثّل في امتلاك الكثير من الأشياء و هذا هو ما يبعث لديك إحساس بالرضا، فأنت حبيب/ة الرأسمالية الأول/ى. لن تتوقف عن الشراء أبداً حتى و إن كنت لا تملك المال. لذلك نرى أن من الشائع خصوصاً بين مجتمعات النساء فكرة التسوق عند الشعور بأي مشاعر سلبية. و نرى كيف يتم تسويق أي سلعة على أنها حلمٌ ستسعد عند تحقيقه. و كيف يعتبر امتلاك مقتنيات غالية شيء "يغلّي" من قيمتك الذاتية. هذه بالذات فكرة تقوم عليها أرباح شركات بأكملها، انهم لا يبيعون المنتج و لكن يبيعون لك الشعور بامتلاك هكذا منتج.
و في حالة لم تكُن من محبي التسوق أو امتلاك الأشياء الغالية، فلا تعتبر نفسك ناجياً من هذا الاستهداف، من منظوري فإن له ألف طريقة أخرى.
على سبيل المثال، لنفترض أنك شخص "طَموح"، تسعى لتحقيق ذاتك و "إنجاز" الكثير في مجال معين. إذا استبعدنا احتمالية أنك من أسرة ثرية، فكيف ستتمكن من إنجاز ما تحلم به أياً كان المجال، و أياً كان الهدف؟ ستعمل، و تعمل كثيراً في كل "الوظائف" التي ستُطرَح أمامك. حتى تكوَّنَ مصطلح "وظيفة الأحلام"، التي ستكون بالطبع عند الحصول عليها أكثر اجتهاداً و ولاءً لها ممن يراها كوسيلة لكسب العيش فقط. لتصبح في هذه الحالة، "المكنة" المثالية، التي لا تتعب ولا تشتكي و لا ترفض المزيد من العمل. تحقق أنت "ذاتك" و تكسب الشركة الكثير من الأموال، الجميع "فائز".
ربما يكون هذا الرأي متطرف في نظر البعض، أو "شيوعي" بكل الحمولات السلبية لهذا الوصف في مجتمعاتنا العربية. و لكنه واقع، لا مفر لي حتى أنا - من أكتب كل ما أكتبه هذا - منه. فما زلت إنسانة عادية، أريد أن اكسب عيشي و في نفس الوقت أريد أن يكون كسب العيش هذا من شيء أنا "شغوفة" به. سأقع في نفس الفخ شئت أم أبيت، لا توجد خيارات أخرى. و هذا ما يجعلني أغضب بشدة من المنظومة بأكملها. و لست من أتباع نظريات أن الرأسمالية هي من خلقت هذا السعي للإنجاز و زرعته في الإنسان، المنتمي للقطيع، مكتوف اليدين المسَيطر عليه. هذا إحساس فطري بشكل كبير، و لكن الواقع الرأسمالي ضخّمه بداخلنا - ربما بدون قصد أو ربما به - و من ثم استثمر فيه كأي شيء تراه الرأسمالية أمامها، فرصة للاستثمار ليس إلا.
ربما تكون حُجّة مضادة لما أقول أن الثورة الصناعية و التطورات المستمرة في الاقتصاد و التكنولوجيا و حتى شكل المجتمع ومتطلباته، قد خلقت فرصاً لتحقيق الأحلام و تقَدُّم البشرية، و إمكانية لارتقاء الأفراد مادياً بناءً - فقط - على مهاراتهم و اجتهادهم. و هذا أمر صحيح فعلاً و لكن بأي ثمن؟
أشعر أن الواقع جرّ الإنسان لاعتبار نفسه سلعة، ليس لكسب الأرباح أو استفادة الرأسماليين، و لكنه ينظر لنفسه كمشروع وليس كإنسان، و ينظر لحياته كوسيلة و ليست غاية. من منظوري الشخصي و ختاماً لهذه الفكرة - حالياً - فإنني لا يمكن أن أنظر لحياتي الشخصية كخطوات لتحقيق أهداف، فهدفي - الذي تكوّن لاحقاً في حياتي - هو الحياة نفسها. هدفي أن يكون يومي العادي ممتعاً بالنسبة لي رغم بساطته. استمتاعي بهذه الكتابة أو بمسلسل أشاهده أو جلسة مع أخواتي أو صديقاتي، و كأنني لا يتوجب عليّ فعل أي شيء آخر. تقديري لأوقات الفراغ و اعتبارها أوقاتاً للتأمل بدل أن اعتبرها أوقاتاً ضائعة. نظرتي لتحقيق أهداف معينة (مادية أو اجتماعية حتى) على أن هذه الأهداف هي وسيلتي نحو هدفي الأكبر، أن "أعيش" حياتي بحق، و أشعر بكل شيء و كل تفصيلة فيها. فالهدف لن يكون من منظوري تحقيق هذا الشيء لأشعر بالرضا التام فقط عند تحقيقه، هذا الشيء وسيلة لجعل "حياتي" وحياة من أحبهم أفضل فقط لا غير. و إذا حققته، سأكتفي بذلك و ساستمتع حقاً بالنتيجة التي توصلت إليها دون الشعور بالحاجة للعثور على "هدف جديد". و بينما أنا أسير نحو هذا الهدف، فإن حياتي اليومية تهمني كذلك. لن استهلكها (أو أكرهها) و أؤجل الشعور بالرضا حتى تحقيق هذا الهدف.
هذه الفكرة أنا مقتنعة بها بالكامل، و لكن هل يتركني القلق من البقاء بلا عمل أو مال، أو من إمكانية تحقيق شيء سيجعلني "أعيش" بصورة أفضل أُطبِّق هذه الفكرة تماماً على حياتي؟ لا أظن ذلك. لكنني ما زلت أحاول، كل يوم. هذا أيضاً "هدف" أخاف من معاملته بذات الطريقة التي انتقدها، و لكنني أسعى إليه يومياً. و كلما أدرك في لحظةٍ ما أنني مشغولة من شيء أفعله أياً كان بهموم أو أفكار عن المستقبل أضع نفسي أمام خيارين، فإما أن أترك ما أفعله و أشرع في فعل شيء يخص هذا الهم، و إما سأنغمس فيما أفعله بكل ما فيّ من شعور و رغبة و رضا.
هذا الرضا المنبوذ و المكروه من المجتمع، و الذي سيمنعني من تحقيق أهدافي في الحياة (لأن القلق هو الدافع الأعظم بالطبع) من منظور هذا المجتمع، هو هدفي الأكبر الذي سأسعى نحوه يومياً.
Comments
Post a Comment