أين هنّ الفيلسوفات؟ "سؤالٌ صعبٌ، سؤالٌ يراودني"

 محاولة أولى لتفعيل زر الكتابة. هذه المهارة التي ربما تُفقد الكتابة رونقها، و ربما تنقلها لمكان أفضل و تطوّعها في يدي بدل انتظار ما يسمى بالإلهام. لطالما فكّرتُ في ما أريد الكتابة عنه اليوم. في الحقيقة، من أكثر الأشياء متعة في بداية رحلة الكتابة كمسار مهني هذه، أنني و طوال حياتي لطالما فكّرت أنني يوماً ما سأكتب عن هذا الموضوع أو ذاك. أنا الآن في "يومٍ ما"، اليوم المنتظر، الذي اتضح أن طول الإنتظار لم يقلل من جماله. وقتما جلستُ حاملةً جهازي، أشعر أنني كاتبة بالفعل. لا أحمل هذا الشعور للأسف بقية أوقاتي، و لكنني هنا و الآن.. كاتبة. رغم افتقادي دفتري وقلمي و حميمية الكتابة بخط يدي.


رجوعاً لموضوع اليوم الذي أريد ضغط زر الكتابة للكتابة عنه.

منذ صغري و الناس يطلقون عليّ "متفلسفة"، أغلبهم -أو هكذا اعتقد- بصورة سلبية. لم يؤثر هذا الشيء على ما أسموه فلسفة أبداً، ربما كنت بينما أكبر تقلُّ أسئلتي لمن هم حولي، و أكبتُ فضولي، و لكني كنت محظوظة بالقدوم في عهد التكنولوجيا، حيث المعلومات لا حدود لها. منذ أول جلوس لي أمام جهاز كمبيوتر متصل بالانترنت، و أنا أُبحرُ بين سيول المعلومات المتوفرة، مصدّقة كل شيء إلى حد ما في بداية الأمر نسبة لصغر سنّي و قلة تجربتي. ثم تزايدت قدراتي النقدية مع الزمن لتكون كل معلومة مدعاة للتأمل و التفكير بدلاً عن معلومة مؤكدة. تطورت بعدها رحلتي لقراءة الكتب، مشاهدة الأفلام السينمائية والوثائقية، مشاهدة المسلسلات،الاستماع للبودكاستات، و متابعة صانعي المحتوى الذي يهمني.


بالرغم من اتساع دائرة اهتماماتي جداً، فلا زالت هنالك بعض المواضيع التي انجذب إليها أكثر من غيرها. من أمتع ما يمكن أن استهلك من محتوى أياً كان نوعه، هو المحتوى الفلسفي. ولا أحصره فقط داخل نطاق الإطلاع على الفلسفات المشهورة أو حتى غير المشهورة لفلاسفة عبر العصور، بل أقصد المحتوى ذا الطبيعة التأملية و التحليلية بكل ما يخص النفس البشرية أو المجتمع أو العالم بشكل عام.

الملاحظة المهمة و السؤال الذي دائماً ما يشغلني بينما أقرأ كتاباً لفيلسوفٍ ما، أو أستمع لإحدى رُسُل المعلومات من ناقلي فلسفات الآخرين، أو أشاهد برنامجاً أو لقاءً بين شخصين في هذا السياق، أين هنّ النساء؟ لماذا يكاد يحتكر الرجال مجال الفكر و الفلسفة؟

بالتأكيد هنالك الإجابة الواضحة، هيمنة الرجال على جميع جوانب الحياة خارج حدود المنزل في عصور سابقة جعلت غياب فيلسوفات -حتى الكلمة غريبة- نساء عن الساحة أمر بديهي. ذلك السياق الاجتماعي جعل من إمكانية وجود فيلسوفات صعبة، و مهمة توثيق أفكارهنّ مستحيلة.


يجعلني هذا الأمر أفكر في كل امرأة كان لها أفكار و مناظير للأشياء كانت ربما تصنع فارقاً في تعامل الإنسانية مع أشياء معينة، و لكنها دُفنت معها و ربما سمعت عنها صديقتها المقرّبة فقط.

في الأغلب أدركت "ماري آن إيفانز" أن هذا ما سيحدث لأفكارها، فقررت الكتابة باسم "جورج إليوت". ففي منتصف القرن التاسع عشر، مَن كان ليقرأ لكاتبة امرأة؟ كتبت تحت هذا الإسم المستعار سبع روايات، خرجت فيها عن كتابات المرأة المحصورة في الروايات الرومانسية في ذلك الوقت. و بالرغم من أنني لم أقرأ هذه الكتب حتى الآن و لكن حماسي لها لم ينطفئ، و تأجيلي أصبح من باب انتظار الوقت المناسب للاستمتاع بها للحد الذي تستحقه.

في القرن العشرين، و بالرغم من تصاعد أعداد المهتمات بالفلسفة منذ القرن الماضي، و وجود مشرّف لأمثال "حنة آرنت" و "سيمون دي بوفوار"، لا زالت نسبة الفيلسوفات للفلاسفة لا ترى بالعين المجردة.

الجانب الذي حدثت به قفزة للنساء في رأيي، هو ليس اتخاذ الفلسفة كمسار واضح (هل يفعل الناس هذا الشيء في عصرنا أصلاً؟)، و لكن الكاتبات اللاتي تغذت كتاباتهن بالفلسفة، و كانت أعمق من ما هي عليه سواء كانت رواية أو كتاب أو حتى دراسة في موضوع معين.


فليعذرني القرّاء الرجال، ما يجعلني أهتم بوجود النساء في الفلسفة هو ليس التحيز فقط (نعم أعترفُ بتحيُّزي لبنات جنسي و رغبتي في مشاركتهن متعة الفلسفة)، و لكن هو أمر أجمع عليه الجميع رجالاً و نساءً، النساء أكثر اهتماماً بالتفاصيل. الأمر الثاني في رأيي أنهن أكثر وعياً بمشاعرهن لأن المجتمع لا يحارب علاقتهن بها كما يحارب علاقة الرجال بمشاعرهم. فبالتالي تجعلُ هاتين الصفتين من النساء مرشحات أفضل في نظري للتأمل في العالم و النفس و المجتمع.

ينبّهني هذا الأمر أيضاً، أن هناك ما هو أكثر أهمية من مجرد تأملات.. علم النفس. غياب النساء عن هذا الجانب المهم من التعامل مع النفس البشرية يجعلني أشكك بقدر كبير في كل ما وصل له هذا العلم من استنتاجات و فرضيات. لا بد من وجود تعقيدات في نفس المرأة ربما يتعثر على الرجل ترجمتها. بل حتى الجوانب المشتركة بينهما، تحليلها من منظور نسائي يحتل أهمية بالغة.


بعيداً عن الإجابة الواضحة المذكورة للسؤال، و في عصرٍ قلّت فيه هيمنة الرجل و أخذت النساء مساحات معقولة في الفضاء العام، يظل السؤال قائماً. و أظل أتساءل في عصر الميديا، أين صانعات المحتوى الذي اعتبره فلسفي على وسائل التواصل الإجتماعي؟ أريد أن أرى برامج تشبه "الدحيح" و "في الحضارة" أو استمع لبودكاست يشبه "Philosophize This" بتقديم نسائي.

هذه محاولة مني لإيجادهنّ، فمن يعلم الطريق إليهنّ فليدلنّي. وربما يوماً ما أصيرُ واحدةً لو امتلكت ما يكفي من الشجاعة التي هي في ظني السبب الأساسي لامتناع كل من قد ترغب في اتخاذ هذا المسار. فالعالم لم يختلف كثيراً منذ عهد "جورج إليوت". 

 

Comments

Popular posts from this blog

أيام الحرب الأولى (في وقت ما بين 15 مايو و حتى 30 يونيو من 2023)

يوم في حياة الطفلة التي هي أنا (كُتب بتاريخ 3 مارس 2022)

الرضا في عصر الرأسمالية (بتاريخ 30 أبريل 2025)